عِراق عليّ الشَّرقيّ.. «فصلٌ ملحقٌ»!
رشيد الخيون
مرت أمس الذِّكرى الحادية والعشرون (9/4/2003)، لما عُبر عنه بـ «تحرير العراق»، وكان قراراً اتخذه الأميركان (1998)، وما أنّ سقط التّمثال، بساحة الفردوس وسط بغداد، بعد تغطية رأسه بالعلم الأميركي، تردد على ألسن الغانمين، تعبير «سقوط الصَّنم»، على أنَّ عهد الدّيمقراطيَّة قد بدأ، و«كلُّ النَّاسِ حسَّن واستجادَا».
كان في كلّ التحولات الكبرى للشعراء اعتبارٌ وحضورٌ، وقصائدُ يصغى لها، جمعها الأديب والأكاديمي يوسف عزّ الدِّين السّامرائيّ (ت: 2013) في أطروحته «الشّعر العِراقي الحديث والتَّيارات السّياسيّة والاجتماعيّة»، والسّامرائي لم يقصد بالحديث، الشّعر المعروف بـ «الحر»، فهو لا يقرّ به، إنما قصد القصائد التي واكبت حوادث العراق الكبرى، في مطلع القرن الماضي، من احتلال ونزاعات اجتماعيَّة، بين القديم والجديد، خلت مِن النّزعة المذهبيَّة أو الطَّائفيّة، مثل التي بين نشبت السُّفوريين والحِجابيين، إنما كان حراكاً ثقافيَّاً ناهضاً.
بيد أنَّ مِن الغرابة، لم يظهر للشعراء صوتٌ في الحدث الأكبر مِن نوعه (2003)، منذ الاحتلال البريطاني للبصرة (1914) ثم بغداد (1917). ليس لهم صوتٌ، لا بالسلب ولا الإيجاب، فهل صح عليهم مطلع صاحب المعلقة: «هل غادر الشُّعراءُ مِن مُتَرَدَّمٍ/ وهل عَرفت الدَّار بعد توهمِ». نعم صح ذلك، إذا علمنا أن معنى «مُتَرَدَّم» المكان الذي اعتراه الوهن والوهي، ويراد استصلاحه (الزّوزونيّ، شرح المعلقات السَّبع)، وهذا تماماً كان، وما آل إليه حال بلادهم، يوحشها الأمل.
هذا ما كان يعيشه العراقيون، بعد الحصار والحملة الإيمانيّة الكبرى، وما كانوا ينتظرونه مِن «تحرير العراق»، بإسقاط «الصّنم»، مع أنّ تكسير الأصنام لم يحصل بيد غير المسلم، فكيف رددتها القوى الدّينيَّة؟ ربّما أرادت بالعبارة إلغاء الذَّاكرة، واعتبار سقوط الصّنم بمعولها، وهو لم يكن كذلك، إنما دخلت بعد سقوطه، وصورة الصَّنم والجندي الذي تسلقه والعلم شواهد.
هل خلا العِراق مِن الشّعراء؟ ولا تحسبوا الأحَاجي والألغاز شعراً! لا أقول انقرض الشُّعراء المطبوعون مِن على هذه الأرض، بل ظهرت لهم قصائد لم ترحم العبث الجاري، لكننا نقصد تلك اللحظة، ولشهور، لم تظهر قصيدة منهم، لا حقّاً ولا باطلاً، فهل أسكتتهم دهشةُ الحدث، وتلاشي الأمل الذي راودهم لعقودٍ، بما قُدم لهم بعبارة «تحرير العراق»؟
نعم، علا صوت الشّعر الشّعبيّ، وكان منذ ظهوره باسم «الكان وكان»، في العصر العباسيّ، مرفوضاً مِن الفصحاء، إلا أنه شد الجمهور، بعد تخلي السُّلطة (1976) عنه، فمنعت نشره وتداوله، ثم استدعته في أمهات المعارك والحواسم، لأنه يعبر عن مستوى مرحلة التّهييج الثّوريّ. مع ذلك كان مِن الشَّعبيين ضحايا قصائدهم، قبل «التّحرير» وبعده، منهم مَن تمت تصفيته بعد مغادرته القاعة، ومن شعرائه، وهم كُثرُ، ما زالوا يُقدمون الشّعر الملوث بالطَّائفيّة والكراهيّة، دون استنكار، مِن حماة الدستور ومراجع الدّين، حتَّى إنَّ بعض الشّعراء صاروا أصواتاً للتَّصفيات.
مما اختاره عزّ الدّين، قصيدةً للشيخ عليّ الشَّرقيّ (ت: 1964)، أراه سد بها الفراغ الذي تركه الشّعراء، بعد مائة عام. قالها خلال الاحتلال البريطانيَ، الرَّحيم نسبةً لاحتلال (2003)، الذي تولد منه الاحتلال الأغرب في التاريخ، احتلال بالولاية، الجنود والأموال مِن البلد نفسه، يحارب بهما حيث يشاء، وأراه الأشد وطأةً، إنْ جازت المفاضلة بين احتلال وآخر.
إذا أنتج الاحتلال البريطاني دولةً ونظاماً، وهامشاً للديمقراطيّة، فالأخير (احتلال 2003) هدّ الدّولة وسلمها بصفقةٍ لاحتلال آخر، وسفه الدّيمقراطيَّة بفرض الميليشيات، وينوي العودة بالعراقيين إلى ما سمي بالعصر الحجري، تكثير المقدسات في مشاهد لم تطرأ على بال.
قال الشَّرقيّ: «نطقتْ بحاجتها الشّعوبُ وأفصحتْ/وأرى عراقي واجماً لا ينطقُ/ وكأن هذا الشّرق سِفر غرائبَ/ أضفى عليه الدَّارجون وعلقوا/ ختمت صحائفُه وجئنا بعدها/ حتّى كأنا فيه فصلٌ ملحقُ». هذا، ولكم تفسير وتأويل «الفصل الملحق».