تقريباً كلّ ما نعرفه عن الصين أو عن أي بلد أو حضارة أخرى هو نتاج ما زرعه في عقولنا إعلام غربيّ متمرّس، جعل وظيفته الأساسية منذ قرن مضى صياغة عقول البشر ومفاهيمهم عن بعضهم البعض، بما يخدم المشروع الاستعماري الغربي القائم على استعباد الشعوب ونهب ثرواتها وتبعية دولها للسياسات الاقتصادية الغربية، وتقوم وسائل الإعلام الغربية بترديد الصفات والأحكام على مدى سنوات كي تصبح جزءاً من ثقافة القارئ أو المشاهد أو المستمع حتى وإن تناقضت مع الواقع المعيش والملموس تناقضاً مطلقاً.
وقد ازدادت وطأة هذه السردية وخطورتها على المعرفة والأحكام مع ازدياد طغيان وسائل التواصل الاجتماعي وتراجع القراءة والبحث الدقيق على المستوى العالمي. ولذلك فإن المكتشف عيانيّاً لبعض الوقائع من الصين الحقيقية، على سبيل المثال لا الحصر، لا يملك إلا أن يراجع جملة من المفاهيم التي غرسها الإعلام الغربي في وجدانه، ويبدأ بالمقارنات وفرز الدعاية الغربية عن الواقع إلى أن يكتشف أن عليه أن ينسى كلّ ما هدر وقته في قراءته أو مشاهدته، ويركّز على ما يكتشفه على الأرض من حقائق ملموسة لا ينالها الباطل من قريب أو بعيد.
كلّ ما قرأناه عن الصين وديكتاتورية الحزب الواحد، وتوق الناس إلى نظم ديمقراطية الغرب، وعجز هذا النظام الصيني عن تحقيق الحرية والنموّ لمواطنيه، ينهار أمام رؤية شعب منظّم دقيق مفعم بالحيوية والتكاتف والالتزام لمكافحة الفقر ورفع مستوى الناس، ليس في الصين فقط وإنما في كل الدول التي تشاطر الصين رؤاها ومبادئها بالانتماء إلى أسرة بشرية واحدة، والتشاركية في بناء هذا الكون لما فيه مصلحة الإنسان في كل مكان.
فكم هو جميل أن تشهد العراقة والأصالة مقترنتين مع آخر ما توصّل إليه العلم والتقنيات الحديثة، وأن ترى الكبرياء والعزة والشموخ تقترن بأرفع حالات التواضع والانحناء لإنسانية الإنسان، من دون تمييز أو عنصرية أو استعلاء على أسس اللون أو الإثنية أو العرق أو الدين. بعد أن اكتشف العالم برمّته زيف الديمقراطية الغربية واستخدامها كغطاء لقهر الشعوب ونهب ثرواتها، واحتلال البلدان ونشر القواعد العسكرية ومنظومات الفساد حيثما يطأ نفوذ الغرب، المستند إلى القوة الباغية والمخابرات العاملة بنسق المافيات والعصابات خارج القانون.
ولذلك لا يسع المرء إلا أن يرحّب بنظام رؤيوي ذي أفق مستقبلي، يعتمد على الحوار والاستشارة والاستكشاف لوضع أسس مبادرات التنمية العالمية والحضارة العالمية والأمن العالمي، والتي تشكّل الصين جذوتها وقاعدتها فقط لتمتدّ عبر حزام واحد وطريق واحد إلى أنحاء المعمورة كافة، المتلهفة للبناء والتحديث والتطوير.
ففي الوقت الذي عكفت فيه الديمقراطيات الغربية على إثارة الحروب والفتن، والتدخّل في الشؤون الداخلية للبلدان تمهيداً لنهب ثرواتها ولإفقارها وإبقائها تابعة للإرادة الغربية، تتمسّك الصين بعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول والمساعدة على بناء دول ومؤسسات قوية تنعكس أمناً ورخاءً على أهل البلد ذاته من دون إملاءات أو شروط أو قيود.
في الصين المرأة موجودة في كل مكان من أماكن العمل، ولكن بكلّ حشمة واقتدار ومن دون التركيز على مظهر الأنثى أبداً، بل الظهور بمظهر الاحترام والكفاءة والعطاء العابر لجنس الشخص أو عمره. ومن أجل هذا اتبعت الصين سياسة استيعاب الأطفال جميعاً في الحضانات ورياض الأطفال، وركّزت على بناء الإنسان جسدياً وأخلاقياً قبل السابعة من العمر لتضمن جيلاً يؤمن بالانتماء لوطنه، وتتوفّر لديه الحصانة والمناعة ضد تسويف الأعداء والخصوم، وفي الوقت ذاته يمنح الأم الفرصة المثالية لمتابعة تخصّصها أو عملها أو إنتاجها من دون الاضطرار، كما تفعل المرأة في الغرب، للاختيار بين الأسرة أو المهنة، وهو اختيار مزيّف ومنافٍ لمتطلّبات المرأة والواقع ومدمّر للنواة الأساسية للمجتمع الإنساني ألا وهي الأسرة.
وقد أنتجت الصين في الثلاثين عاماً الماضية جيلاً من الشباب والشابات المحصّنين والمنتمين والذين يصعب اختراقهم، نتيجة الاهتمام بهم وبتطوّرهم وتوجّهاتهم منذ نعومة أظفارهم. وفي الوقت الذي يدّعي الغرب أن مثل هذا الأسلوب يسلب الإنسان حرية الاختيار، فقد شهدنا جميعاً اليوم أين تقود هذه الحرية المنفلتة من القيم والأخلاق والأعراف الإنسانية التي ادّعاها الغرب، وخطرها على بنية الأسرة والمجتمع وحتى على إنسانية الإنسان وتوازنه ودوره في الحياة.
تولي الصين أهمية كبرى لمنظومتي التعليم والبحث العلمي، وتخصص الميزانيات السخيّة جداً للأبحاث داخل الجامعات أو في مراكز الأبحاث المتخصصة. والفرق الكبير بين هذه المراكز وتلك المنتشرة في الغرب أن مراكز الأبحاث الغربية تنتج ما يعزّز الهيمنة والسطوة على العالم وتغلّفه بأغلفة الحرية وحقوق الإنسان.
ومن هنا تصبح الصفات الديكتاتورية التي يطلقها الغرب على كل ما يتعلّق بالصين جوفاء وخالية من أي مرتسم على أرض الواقع، لأن نتيجة السياسات الصينية دولة قوية ومواطن ذو كرامة، لأن الفقر والعوز هما عدوّا كرامة وحياة الإنسان. وطالما أن السياسة الصينية تركّز تركيزاً هائلاً على انتشال كلّ الناس من الفقر فهي حكماً تنتصر لإنسانية الإنسان وكرامته، بينما نجد بؤر الفقر تنتشر في كل المدن الرئيسية في الغرب، ويتمّ نشر الفقر حيثما حلّ الغرب هو أو وكلاؤه، ويقوم الغرب ومخابراته بزرع بذور الفساد في البنى السياسية والمجتمعية لكل بلد تمكّن من إحكام قبضته عليه.
في الصين يحتفلون بجني المواسم وترصد لها وسائل الإعلام صفحات لإظهار التنافس الرائع في الإنتاج، وفي مثل هذه الاحتفالية يؤكد الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الهدف المركزي من النهوض بالزراعة يجب أن يكون رفع مستوى المزارع وتحسين وضعه المادي، ويشجّع كل الجهود التي تهدف إلى تطوير طرائق ومقاربات لزيادة دخل المزارعين بحيث تصبح جيوبهم مليئة، وعندها تصبح حياتهم أفضل. وأنت في شوارع خانجو أو بكين تشعر وكأنك في معرض دائم للزهور، لأن الأناقة والرقي في زرع وتصميم الورود لا مثيل لهما في أي مدينة غربية، مما يرفع من الذوق العام ومن المستوى الحضاري للبشر كافة.
أمّا الشفافية فحدّث ولا حرج حيث لا يمسك أحد بعملة، ويكاد الأطفال لا يعرفون بوجود عملة متداولة، فقد بنت الصين نموذجاً للدفع الإلكتروني على الهاتف، يتمّ استخدامه من آخر مزرعة في الصين إلى أعماق المدن الكبرى. فلا تحويلات بين البنوك ولا سحوبات ولا مبالغ نقدية تتساءل عن مصدرها. بل “كود” على الهواتف يتمّ الدفع من خلاله، ممّا وضع حداً نهائياً للفساد والعمولات وإساءة الأمانة المالية، وذلك على عكس الدول الغربية التي تدّعي محاربة الفساد، بينما كانت وما زالت تنهب المليارات من العراق وليبيا وسورية ودول الخليج ومن أي دولة تسطو عليها. وكما نهبت الإرث التاريخي للدول، اليوم تنهب نفط وقمح ومعادن ومقدّرات أي دولة تتمكّن من أخذ موطئ قدم لقواتها فيها.
أيّ أن التناقض بين القول والفعل في المنظومات الغربية مرعب بالفعل، بينما نشهد في الصين احتراماً منقطع النظير لكل كلمة أو عهد أو وعد، ولدى الصينيين من الذاكرة ما يدفعهم للمراجعة والتفكير والاستفادة من دروس الماضي.
في المرحلة المقبلة على الصين أن تركّز في سرديّاتها على صورتها في العالم، وأن تبذل جهوداً مضاعفة لتجعل العالم أكثر معرفة بتاريخها، وبالخطوات الهائلة التي اتخذتها لمكافحة الفقر والفساد، وبنوع الديمقراطية الصينية المتوافقة مع الثقافة الصينية ومع احتياجات وطموحات الشعب الصيني.
وبهذا تقدّم نموذجاً حيّاً ولامعاً عن ضرورة توافق أسلوب الحكم مع ثقافة واحتياجات كل شعب، وتجهض الفكرة الخاطئة التي روّج لها الغرب لعقود عن صلاحية الديمقراطية الليبرالية لكل زمان ومكان، خاصة وأن هذه الديمقراطية قد أثبتت فشلها وكارثيتها على شعوب الأرض، وحتى على شعوب البلدان الغربية، وتنذر بأخطار جسيمة على سلامة المجتمع البشري وطبيعته ومستقبله.
لقد وصلت الصين مرحلة تمكّنها من أن تكون نموذجاً للثقة بالنفس والتاريخ والمستقبل، ومثالاً يُحتذى لكل الدول التوّاقة فعلاً لنفض الاستكبار الغربي عن كاهلها، والتخلّص من العنصرية والصلف الغربيّين اللذين يعملان على طمس هوية ومقدّرات الشعوب وابتزازها ونهبها واستعبادها.
في انتصار الصين لتأدية دور قيادي في عالم متعدّد الأقطاب انتصار للإرادة البشرية الحرّة والعفوية، وانتصار للخير على الشر، وانتصار على التحديات الجسيمة التي يواجهها معظم البشر في عالم اليوم.
المصدر: الميادين نت